وينشأ ناشئ الفتيان منا .. على ما كان عوده أبوه
هكذا قال الشاعر قديما، وهو ما أثبتته الدراسات الاجتماعية حديثا. فبغض النظر عن مدى مواهبك الفطرية، فإن حجم إنجازك مرتبط بالبيئة التي نشأت فيها.
فإذا كنت من مصر مثلي، فإنك بالضرورة تعلم أننا نشأنا في بيئة ليست فقط تجهل كل شيء عن الثقافة المالية، وفن إدارة المال. بل إنها أيضا عندها أفكار مغلوطة تماما عن المال. يعني للأسف جهل مركب!
كم منا نشأ على أمثلة من نوعية:
"اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"،
ومثل "اللي معاه قرش ومحيره، يجيب حمام ويطيره"،
ومثل "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه".
كم مادة درست في المدرسة أو الجامعة أو الدراسات العليا عن كيفية عمل المال، وضروة الادخار، وأدوات الاستثمار؟ طبعا الإجابة معروفة سلفا، صفر كبير!
في هذا المقال سأتحدث عن ماهية الثقافة المالية، وما هي أهميتها. سأتكلم عن سباق الفئران، وكيف يتسبب جهلنا بطبيعة المال في وقوعنا فريسة لهذا السباق.
البداية: هل الثقافة المالية عِلم؟!
بلا أدنى شك فإن فن التعامل مع المال، وفهم كيفية عمله، عِلم في غاية الأهمية. ولأثبت لك هذا سأطلب منك محاولة الإجابة على هذه الأسئلة التي قد تبدو للوهلة الأولى أنها بديهية:
- كلنا يعرف أن الإدخار شيء هام، لكن هل تعرف كيفية الإدخار بصورة سليمة وفعالة؟
- هل تنفق كل راتبك؟
- هل تخصص شيء من دخلك للتعلم وتنمية مهاراتك؟
- هل تعرف ما هي قائمة الدخل الخاصة بك؟
- هل تستطيع أن تُفرِّق بين الأصول والإلتزامات؟
- هل حسبت مقدار المال الذي تحتاجه للتقاعد؟
- هل تعرف من هو الغني حقا؟ وهل كل من امتلك مالا صار غنيا؟
- هل تعرف ما هو التضخم؟ وكيف ممكن يؤثر عليك؟
- أنت تعمل من أجل كسب المال، لكن هل تعرف كيف تجعل المال يعمل من أجلك؟
- هل تعرف ما هي أدوات الاستثمار المتاحة في بلدك؟ أو متاحة حول العالم وتقدر تصل لها من مكانك؟
- هل تعرف ما هي أسواق المال؟ وكيف ممكن تستثمر في الأسهم بصورة آمنة؟
- هل عندك عِلم أن الشركات العملاقة التي تسمع أسمائها في الأخبار توزع المليارات من الأرباح سنويا على حاملي أسهمها؟
على مقياس واحد إلى عشرة، كم تكون درجتك في الإجابة على هذه الأسئلة؟
أستطيع أن أجزم أن ما لا يقل عن 90% من أصحاب الشهادات العليا والماجستير لا يمكنهم تخطي 5 من 10 في هذه الأسئلة.
ولكن لِمَ؟! ليس لأن عندهم نقص في القدرات العقلية أبدا، بل لأن هذه الموضوعات لم تطرح أمامهم من الأساس.
والآن قد تسمع قائلا يقول، قد عشنا عمرنا كله بدون هذا العلم، فما الفائدة منه؟ ولأجيب عن هذا السؤال دعني أحدثك عن سباق الفئران.
سباق الفئران
تخيل معي هذه التجربة: قطعة من الجبن معلقة في متناول الفأر، لكن المدخل الوحيد لهذه القطعة من الجبن قد وضع فيه مشاية كهربائية كالتي تجري عليها في الجيم.
مجرد أن يفتح الباب أمام الفأر يبدأ في التحرك في اتجاه قطعة الجبن ظنا منه أنها صيدا سهلا. لكنه بمجرد أن يصعد على المشاية الكهربائية يُفاجأ بأنه لا يتحرك من مكانه. فيبدأ في زيادة سرعته حتى يتمكن من الوصول لقطعة الجبن. لكنه كلما زاد من سرعته، كلما تحركت المشاية بسرعة أكبر حتى تجاري سرعته، فتظل الإزاحة صفر، ويظل الفأر يرى قطعة الجبن في متناول يده ويشم رائحتها، ولا يستطيع أن يصل إليها.
هل تذكرك هذه التجربة بشيء؟! إنها تذكرني أنا بأشياء.
هذا مثال يحاكي بالضبط النموذج الذي نتعامل معه في حياتنا المادية. فإن قطعة الجبن تمثل حريتنا المالية والرخاء الذي نتمنى أن نعيش فيه، بينما تمثل المشاية الكهربائية نظامنا المالي الذي يقوم على إنفاق كل ما نملك عملا بالمثل "أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، فإذا جاءتنا علاوة أو حصلنا على مكافأة فإننا نرفع من سقف المصاريف حتى تأكل هذه الزيادة، وتظل الإزاحة تساوي صفر. وتظل أنت لم تتحرك خطوة واحد في اتجاه حريتك المالية.
ويستمر الوضع على هذه الحال حتى يتفاجأ الإنسان أنه قد بلغ الستين من عمره، وخرج على المعاش، فحصل له انهيار كبير في مصدر الدخل الذي كان يعتمد عليه، بدون أن يكون عنده بديل يوفر له نفس المستوى من المعيشة، فتبدأ الاضطرابات والمشاكل.
إذن فمن هو الغني؟ وما هي الحرية المالية؟
جميعنا يعلم أن حياة الوظيفة في عالمنا الحالي غير آمنة.
فأنت معرض أن يأتيك مدير سيء مع أي إعادة هيكلة لشركتك، فيجبرك على ترك المكان كله فرارا منه. أو تضطر شركتك إلى تقليل عدد الموظفين في أول أزمة اقتصادية تمر بها، ومعروف من هم الذين يتم التضحية بهم أولا.
لذلك فإن الهدف الأسمى لمن يدرك حقيقة الأمر هو أن يكون غنيا عن الشغل، أو بعبارة أخرى أن الهدف الأسمى هو أن تصل إلى حريتك المالية التي تجعل من عملك أمر تقوم به لأنك تستمع به، لا لأنك مضطر إليه.
ومعنى الغنى المقصود هنا هو أن يكون لديك من الأصول التي تُدِر المال بالقدر الكافي الذي تغطي أرباحه نفقاتك الثابتة.
بعبارة أخرى فإن الحرية المالية معناها أنك تمتلك ودائع نقدية، وأسهم لشركات توزع أرباح، وعقارات تدخل إيجارات، ونسبة في مشروع تجاري يدر دخل بدون أن تضطر لمباشرته بنفسك. بحيث يكون مجموع هذه التدفقات النقدية أكبر من أو يساوي مجموع نفقاتك.
وعلى ذلك لو افترضنا شخصا دخله مليون جنيه شهريا، ونفقاته الشهرية مليون جنيه وعشرة آلاف. فإن هذا الشخص واقع في مصيدة الفئران. وسيظل فيها حتى يفهم أن هذه مصيدة، وأن عليه أن يغير تفكيره حتى يخرج منها.
بينما شخص آخر دخله عشرة آلاف جنيه فقط شهريا، بينما نفقاته الشهرية تسعة آلاف جنيه. فإن هذا شخص قادر على توفير 10% من دخله بصورة شهرية. ومع الوقت والمواظبة سيستطيع أن يصل إلى حريته المالية.
ما الحل؟
أول خطوات العلاج تكمن في إدراك وجود المشكلة.
وأول خطوات الخروج من سباق الفئران هو أن تدرك أن واقع فريسة لهذا السباق، ليس لأنك شخص سيء أو جاهل، بل لأنه هذا هو الشيء الوحيد الي تعلمته من بيئتك التي نشأت وترعرت فيها.
ثم عليك أن تتخذ قرارا حاسما بأن عليك أن تخرج من هذه الدائرة المغلقة، والسبيل الوحيد الذي للخروج من هذه الدائرة هو بأنك تتعلم كيف تخرج منها. وهذا هو تحديدا العلم الذي أحب أن أشاركه معك في هذه السلسلة من المقالات.
فقد بدأت الاهتمام بهذا الموضوع منذ ما يقرب من ثلاثة سنوات تقريبا، فقرأت فيه العديد من الكتب، وبدأت في تطبيق هذا العلم بنفسي في أكثر من اتجاه، حتى بدأ يأتي ثمرته معي. وأنا أحب أن أشارك هذه التجارب معك.