من هو أكثر العرب سخاء؟
الرجل الذي احتل المركز السادس بقائمة المحسنين العشرة الكبار على مستوى العالم حسب قائمة ويلث إكس
على عكس ما يتبادر للعقل الجمعي العربي فإن المال ليس أصل كل الشرور، والأغنياء ليسوا هو الأوغاد الذين يستغلون كل شيء لمصلحتهم الخاصة. هذا هو المعنى الذي أحاول أن أناقشه في الفصل الرابع من كتابي لعبة المال.
وبينما أعد المادة اللازمة لكتابة هذا الفصل، وقعت على معلومة وقصة أبهرتني وألهمتني لأكتب هذا المقال:
لطلما كان الكرم والسخاء من أعظم الصفات التي يبجلها العرب مذ خلقهم الله. لكن لو أردنا أن نعرف من هو أكرم العرب اليوم بلغة الأرقام، ترى من يكون؟
تعالى معى أحكي لك القصة من أولها:
يمكنك أن تبدأ بقراءة ما تم نشره حتى الآن من كتاب لعبة المال من تأليف م/ محمد حسن:
لماذا لا نتعلم شيئا في مدارسنا عن المال
المولد في القصيم
في صباح صيفيٍ من عام 1928 في قرية البكيرية بمنطقة القصيم، وُلد الصبي الثالث بين أشقائه الأربعة: صالح، عبدالله، سليمان ومحمد. لم يكن يتخيّل يوماً أن هذا الوليد، الذي نشأ بين جدران بيت بسيط وأرض جرداء، سيحتل المركز السادس من أصل أكبر متبرعين للأعمال الخيرية على مستوى العالم.
البدايات في الرياض
حين كان سليمان في التاسعة من عمره، انتقل مع أسرته إلى الرياض. هناك بدأ ينهل من مدرسة الحياة قبل أن ينال شهادة علمية. عمل حمالاً في السوق، يحمل طرود التجار ويكسب قوته بعرق جبينه، ثم تحوّل حارساً للبضائع، يراقبها بين جنبات الأكشاك. وفي وقت فراغه، كان يتتبّع الأبل لجمع الحطب، أو يشارك في البناء، مدركاً أن كل يوم عمل يمنحه درساً في الاجتهاد وفهم طبيعة الناس.
هذا درس لا يفهمه أكثر الناس، مدرسة الحياة تعلم أكثر من المدارس التقليدية النظامية، لكنها تعلم من فتح قلبه وعقله مستعدا لتقبل الدرس، على الرغم من البدايات المتواضعة، إلا أن الخبرات التي حصل عليها بطلنا سليمان كانت لا تقدر بثمن، ولا تستطيع أي من مدرسنا الإنترناشونال اليوم توفيرها مهما بلغ حجم مصاريفها، أو تعددت جنسيات المدرسين فيها.
عند عمر الخامسة عشرة، افتتح دكانه الصغير في حي المربع، يبيع فيه السكر والشاي والحلويات المستوردة من البحرين. وكل قرش كان يجنيه، كان ثمرة جهد ومغامرة. وبعد عامين، باع المحل لتمويل زواجه، فاتحاً باباً جديداً من حياته.
الانطلاق إلى جدة وشراكة الأخوين
في عمر السابعة عشر، وفي خضم خُطا حياة تتسارع، اتجه سليمان عام 1945 إلى جدة ليلتحق بأخيه صالح، ويعمل معه في محل الصرافة. حمل الأمانات على ظهره، قاطع عشرات الكيلومترات مشياً لتوفير أجرة الحمال، وفي الوقت نفسه بدأ بتجارة الأقفال والكتان ومواد البناء.
هل تلاحظ التطور في الشخصية؟
بينما يسمي مجتمعنا اليوم الشاب ذي السابعة عشر طفلا، كان سليمان ينفذ أول القواعد المالية بداهة، وهي تقليل المصاريف من خلال تنفيذ المهما بنفسه لتوفير أجرة الموظفين، ثم يقوم بتنويع مصادر الدخل من خلال أنواع مختلفة من التجارة. كل هذا تعلمه في مدرسة الحياة، وليس في الجامعة أو البكالوريا.
بعد نحو أحد عشر عاماً من الشراكة، أدرك الأخوان قوة حصيلتهما المالية وفكرتهما المبتكرة في عالم الصرافة، فحوّلا الدكان الصغير تحت مسجد عكاشة إلى مؤسسة رسمية تحمل اسميهما عام 1957.
في عام 1972 (أي عند عمر 44 عاما) بدأ بالعمل بمفردة تحت اسم «مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي». وبدأ في التوسع وقام بفتح عدد من الفروع في جدة وغيرها، مع حرصه على عدم فتح أية فروع في منطقة الرياض احتراماً لنشاط شقيقه الأكبر الشيخ صالح. هذا التوسع المصرفي صحبه أيضاً التوسع في مجال العقار واستطاع اكتساب سمعة طيبة لدى العملاء والتجار من داخل المملكة وخارجها.
وبينما نلاحظ في الغرب اقتتال الإخوة عادة بسبب الأمور المالية، كما حصل في قصة Adidas، وفي العلامة التجارية Grohe. إلا أن هنا شأن آخر تماما فالأخوان اجتماعا على حب، وافترقا على وفاق، حتى أن سليمان لم يفتح فرعا واحد في الرياض حتى لا ينافس أخاه. لا شك أن هذا كان من أسباب البركة التي طرحها الله في أمواله.
بعد فترة تقارب الست سنوات (أي أنا سليمان كان يناهز الخمسين من عمره حين ذاك) من العمل بشكل منفرد اتفقا على العودة للعمل من جديد بشكل مشترك. لكن هذه المرة اجتمع الأشقاء الأربعة للعمل جميعاً وتم تفويض الشيخ سليمان ليدير العمل بشكل رئيسي، وكان هذا في عام 1398هـ / 1978م حيث تم تأسيس شركة الراجحي للصرافة والتجارة، والتي تركز عملها الرئيسي في مجال الصرافة٫
وهنا بدأت رحلة تأسيس "مصرف الراجحي" الذي نعرفه اليوم.
فكرة المصرف الإسلامي
على مدى سنوات، توالت صفقات الصرافة والعقار،اضطر سليمان خلالها للتعامل مع عدد كبير من البنوك والمصارف العالمية، الأمر الذي أشعاره بقلق بسبب الخوف من دخول بعض المال الحرام إليه من معاملات مالية غير شرعية. وتأكدت مخاوفه عندما اكتشف دخول فوائد لم تتوافق مع ضوابط الشرع لحساباته في بعض الأحيان. فشرع في تصميم منهج مصرفي جديد، إسلامي بامتياز، بعيد عن الربا.
توجه إلى لندن عام 1981 (أي عندما كان عمره 53 عاما) لطلب ترخيص مكتب خدمات استشارية، ونجح بإقناع البنك المركزي البريطاني. ثم بجولة عالمية نشر فيها مفهوم "العمل المصرفي الإسلامي". وبعد ست سنوات من الجهد، حصل أخيراً على إذن تأسيس "شركة الراجحي المصرفية للاستثمار" عام 1988، برأس مال حوالي 40 مليون ريال مجموعة من 132 مؤسساً على رأسهم هو وإخوته الثلاثة.
وبطبيعته المحبة للتوسع، لم يقف سليمان عند حدود المملكة، بل شق طريقه إلى اليمن ومصر، مزيداً من الفروع وشبكة صراف آلي تضم آلاف الأجهزة. وفي الوقت نفسه، نزل إلى حقول الزراعة والصناعات الغذائية، فأسس مشاريع دواجن وطنية، وشركة وطنية للصناعات الورقية والبلاستيكية والبلوك الأحمر.
الإحسان
وفي حدود العام 2016 (أي عند عمر يناهز الـ 88 عاما) قام سليمان الراجحي بتوزيع كل أمواله.
فقد نقل ثلثي ثروته وهي قيمة أسهمه في بنك الراجحي (تعادل مؤخرًا 3.7 مليار دولار) ومشاريع زراعية (دواجن وأصولاً أخرى) إلى وقف خيري يحمل اسم مؤسسة سليمان بن عبدالعزيز الراجحي الخيرية. والثلث الباقي وزعه بين أولاده. ليعود إلى الصفر حيث بدأ أول مرة.
وبهذا التبرع وضعته مجلة ويلث إكس في الترتيب السادس بين أكبر عشرة متبرعين على مستوى العالم، وبذلك يعتبر سليمان بن عبدالعزيز الراجحي هو أكثر العرب سخاء كما تثبته الأرقام.
الإلهام
سردت لك هذه القصة بطولها لأثبت لك كل الأمور التي أردت أن أعبر عنها في الفصل الرابع من كتابي لعبة المال:
إن المال ليس أصل كل الشرور، بل هو أداة تستخدمها في الخير أو الشر بحسب إرادتك.
أن الأغنياء ليسوا هو الأوغاد الذي يستغلونك ويجعلون منك فقيرا. بل أن الذي ترى الأمر بصورة خاطئة. فإن أحببت أن تغير من وضعك، لابد أن تغيير من طريقة تفكيرك.
المدرسة -على أهميتها- لن تعلمك كيف تتعامل مع المال، ولا كيف تصبح غنيا ولا صاحب أعمال. هذا علم لابد أن تعلمه لنفسك بنفسك، وإلا لا تلومن أحدا على فقرك.