تخيل نفسك تعود بالزمن إلى الصف الدراسي. تجلس في مقعدك الخشبي، تنظر إلى السبورة وقد كُتبت عليها معادلات رياضية معقدة، أو دروس في التاريخ القديم، أو قواعد اللغة. تتذكر أنك قضيت سنوات تحفظ تواريخ المعارك، وتردد بصوت عالٍ جداول الضرب، وربما حتى تحفظ أجزاء من مسرحيات شكسبير أو قصائد أحمد شوقي.
لكن اسأل نفسك الآن:
هل قضيت ولو حصة واحدة تتعلم فيها كيف تدير مالك؟ كيف تضع ميزانية؟ أو كيف تتجنب الديون؟
لا؟
اطمئن، أنت لست وحدك.
خلال رحلة كتابتي لكتاب لعبة المال، اكتشفت الحقيقة حول أنظمتنا التعليمية.
تعالوا معا نستعرض جزءا من الكتاب لإجابة هذا السؤال:
لماذا لا نتعلم شيئا في مدارسنا عن المال؟
اقرأ ما تمت كتابته من كتاب لعبة المال حتى الآن من تأليف م/ محمد حسن:
لماذا لا نتعلم شيئا في مدارسنا عن المال
في أغلب دول العالم، لم تُصمَّم المدارس أصلًا لتعليمنا كيف نكسب المال أو نديره، على الرغم من أن هذا الموضوع لا يقل أهمية عن الرياضيات والفيزياء. ولفهم هذه المفارقة نحتاج أن نعود قليلا إلى الوراء لمعرفة كيف نشأ النظام المدرسي الذي نحن عليه الآن:
تاريخ المدارس
في عصور البشر الأولي كانت بداية التعليم كانت فردية تماما، كل أب يعلم ابنه الحرفة التي يعرفها لتكون مصدر دخله وطريقة بقاءه على قيد الحياة، المزارع يعلم ابنه الزراعة، والحداد يعلم ابنه الحدادة، وهكذ. لم تظهر المدارس إلا عندما استقر الإنسان وبدء في بناء الحضارات، فكان أول ظهورها في الحضارة المصرية، والهندية، والصينية، ثم الإغريقية. لكن مع ملاحظة أن هذه المدارس، أولا لم يكن لها منهج موحد عام، كما أنها كانت في الغالب مقصورة على أولاد الأثرياء.
لكن ثمة ظاهرة يمكنك أن تراها واضحة في دولة الإغريق القدامى كما هو مذكور في تاريخ التعليم على ويكيبديا: ألا وهي أن التعليم الوحيد الإجباري في اليونان وقتها كان هو التعليم العسكري، وكانت مدته سنتين لكل الذكور القادرين على حمل السلاح.
المدارس النظامية
لعل أول مدرسة بالمعنى الذي نراه اليوم كانت المدارس التي بناها الوزير السلجوقي الذي خدم سلاطين السلاجقة ألب أرسلان ومُلك شاه، نظام الملك (1018م - 1092م)، وكانت تسمى بالمدارس النظامية في بغداد وخراسان (تقع حاليا في شمال إيران، وأجزاء من أفغانستان وتركمانستان) في القرن الخامس الهجري، والحادي عشر الميلادي. حيث كان الوزير ينفق عليها من أموال الدولة، وفتح أبوابها إلى جميع أولاد المسلمين. ولأن نظام الملك كان مولعا بالعلوم، محبا للأدب والفقه، كان للمدرسة هدف واحد، واضح وصريح، تخريج دفعات من الأئمة والوعاظ وعلماء الدين. وقد أدت هذه المدارس مهمتها على أكمل وجه وأخرجت عباقرة مثل إمام الحرمين الجويني (1028م - 1085م)، وحجة الإسلام الغزالي (1058م - 1111م).
يمكنك كذلك أن تستحضر المدارس التي بناها أمراء البيت الأيوبي لتدريب المماليك لمساعدتهم في حروبهم ضد الصليبين، كما في الصراعات الداخلية في البيت الأيوبي نفسه، حيث كان يتم إحضار هؤلاء المماليك من أماكن متفرقة وهم صغار ويتم تعليمهم اللغة العربية، والقرآن والفقه، والأهم من ذلك يتم تعليمهم فنون القتال وحمل السلاح، والولاء التام للأمير الذي قام بشرائهم وتدريبهم. وقد أدت هذه المدارس أيضا عملها بصورة ممتازة وأنتجت قادة من أبطال العالم الإسلامي مثل سيف الإسلام قطز (متوفى 658هـ - 1260م) الذي هزم التتار، والظاهر بيبرس (متوفى 1277م) الذي هزم الصليبين.
مدارس مملكة بروسيا
لكن أقرب مثال لشكل لمدارس الذي مازال قائما حتى يومنا هذا بدء في التبلور والظهور في ممكلة بروسيا (حاليا ألمانيا) وتحديدا بعد الهزيمة المُذلة للألمان على يد جيوش فرنسا بقيادة نابليون بونابرت ما بين عامي 1805 - 1806م في معركة أوستورليز، أو ما يعرف بمعركة الأباطرة الثلاثة. حينها قرر الإمبراطور الألماني أن هذا لن يحدث لأي جيش ألماني مرة ثانية أبدا، وبدء في بناء هذه المدارس لإعداد جيل من الجنود المتعلمين، المطيعين، المستعدين دوما للدفاع عن الإمبراطورية البروسية (الألمانية)، واستعان بأحد أبرز فلاسفة عصره فيتش لنشر هذا الفكر، حيث قال فيتش في كتابه عنوان الأمة الألمانية:
"The citizens should be made able and willing to use their own minds to achieve higher goals in the framework of a future unified German nation state."
أو ما معناه:
المواطن الألماني لابد وأن يكون قادرا ومستعدا لاستعمال عقولهم لتحقيق هدف أسمى في إطار بناء الأمة الألمانية الموحدة.
إذا نظرنا إلى كل الأمثلة السابقة ستجدها كلها قائمة على فكرة بناء مجموعة متشابهة من الخِريجين لهدف محدد:
هذا الهدف كان عسكري في حالة الإغريق، والمماليك، وصولا إلى الألمان.
أو ديني كما في حالة المدارس النظامية.
بداية النظام المدرسي الحديث في أمريكا
لكن القفزة الكبرى التي شكلت النظام التعليمي الحديث كما نعرفه اليوم حدثت في أمريكا خلال القرن التاسع عشر على يد رجل يُدعى هوراس مان، الذي يُعتبر "أبو التعليم العام" في الولايات المتحدة. في ذلك الوقت، كانت أمريكا تمر بتحول اقتصادي هائل مع الثورة الصناعية. المصانع بدأت تنتشر، والمدن تكتظ بالعمال، والدولة تحتاج إلى مواطنين يعملون بكفاءة ويدفعون الضرائب لتمويل نموها الاقتصادي.
هوراس مان، الذي كان وزيراً للتعليم في ولاية ماساتشوستس، رأى أن التعليم هو السبيل لبناء مجتمع مزدهر. لكنه لم يصمم نظاماً تعليمياً لتخريج أصحاب أعمال أو مستثمرين، بل لإنتاج عمال مطيعين يخدمون المصانع ويحافظون على استقرار الدولة. في عام 1837، بدأ مان بنشر فكرة المدارس العامة المجانية التي تُعلم الجميع، لكن بمنهج موحد يركز على القراءة، الكتابة، الحساب، والأخلاق.
كان هدفه واضحاً: خلق جيل من المواطنين القادرين على العمل في المصانع، قراءة التعليمات، ودفع الضرائب بانتظام.
هذا النظام، الذي انتشر لاحقاً في أنحاء العالم، لم يكن مصمماً لتعليمك كيف تصبح ثرياً أو تدير أموالك. بل على العكس، كان الهدف هو الحفاظ على الهرم الاقتصادي: طبقة عاملة تنتج البضائع، وطبقة عليا تدير الثروة.
تخيل معي: لو أن كل طالب تخرج من المدرسة يعرف كيف يبني مشروعاً تجارياً أو يستثمر أمواله، هل كان المصنع سيجد عمالاً يكدحون مقابل أجر يومي؟ وهل كانت الدولة ستضمن تدفق الضرائب من مواطنين يعرفون كيف يقللون ضرائبهم قانونياً؟
الإغفال المتعمد لتعليم المال
نعم، كان الإغفال متعمداً. إدارة المال، بناء المشاريع، الاستثمار، وحتى التعامل الأمثل مع الضرائب، كلها موضوعات تُركت خارج المناهج الدراسية. لم يكن ذلك بسبب النسيان أو الإهمال، بل لأن تعليم هذه المهارات كان يتعارض مع الهدف الأساسي للنظام التعليمي.
دعني أضرب لك مثالاً: في أواخر القرن التاسع عشر، كان أباطرة الصناعة مثل جون روكفيلر وأندرو كارنيجي يسيطرون على الاقتصاد الأمريكي. هؤلاء لم يتعلموا في المدارس كيف يبنون إمبراطورياتهم المالية، بل تعلموا ذلك من خلال التجربة والمغامرة. بينما كان النظام التعليمي يهيئ الآخرين للعمل في مصانعهم، وليس لمنافستهم.
حتى الضرائب، وهي جزء أساسي من حياتنا المالية، لم تُدرَّس في المدارس. لم يُعلَّم الطلاب كيف يفهمون النظام الضريبي، أو كيف يستفيدون من الإعفاءات الضريبية، أو حتى كيف يتجنبون الأخطاء التي تكلفهم غرامات باهظة. بدلاً من ذلك، كان التركيز على تعزيز فكرة أن دفع الضرائب واجب وطني، دون أي مناقشة لكيفية إدارتها بحكمة.
النتيجة؟
أجيال تخرجت دون أدوات لفهم اللعبة المالية، فأصبحوا فريسة سهلة للديون، الإنفاق المفرط، والضرائب غير المحسوبة.
لنأخذ قصة واقعية من أمريكا نفسها. في عام 1929، عندما ضرب الكساد العظيم الاقتصاد العالمي، خسر الملايين مدخراتهم ووظائفهم. لم يكن ذلك بسبب نقص الذكاء أو الكفاءة، بل لأن الغالبية العظمى لم يكن لديها أي معرفة بكيفية إدارة المخاطر المالية أو تنويع مصادر الدخل. لو كان النظام التعليمي قد علّمهم أساسيات الاستثمار أو الادخار، لكانوا أقل عرضة للانهيار. لكن بدلاً من ذلك، كانوا مجرد عجلات في آلة اقتصادية لا يفهمون قواعدها.
لماذا أكتب هذا الكتاب؟
هنا يأتي دوري. أكتب هذا الكتاب لأنني أؤمن أنك تستحق أن تعرف ما لم تُعلّمك إياه المدرسة. أريد أن أمنحك المفاتيح التي تُمكّنك من لعب لعبة المال بثقة وذكاء. في هذه الصفحات، سأعلمك كيف تبني ميزانية تحميك من الديون، وكيف تستثمر أموالك لتخلق مصادر دخل جديدة، وكيف تتعامل مع الضرائب بحكمة لتوفر أكثر وتخسر أقل. سأشاركك قصصاً عن أشخاص مثلك، واجهوا تحديات مالية وانتصروا عليها لأنهم تعلموا القواعد.
تخيل معي لو أنك تعلمت في المدرسة كيف تبدأ مشروعاً صغيراً، أو كيف تحول 100 دولار إلى 1000 من خلال استثمار بسيط. تخيل لو كنت تعرف كيف تحسب الضرائب بحيث توفر ما يكفي لتحقيق أحلامك.
هذا الكتاب هو مدرستك الجديدة، حيث لن تجد معادلات رياضية معقدة، بل أدوات عملية تجعلك سيد مالك ومستقبلك.
اشترك الآن في نشرة رفاه البريدية لتتمكن من قراءة كتاب لعبة المال لحظة بلحظة بينما أقوم بكتابته.